فصل: تفسير الآيات (73- 74):

صباحاً 9 :19
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
22
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (70):

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} بين معناه. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} يعني أردأه وأوضعه.
وقيل: الذي ينقص قوته وعقله ويصيره إلى الخرف ونحوه.
وقال ابن عباس: يعني إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له، والمعنى متقارب. وفى صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوذ يقول:«اللهم إنى أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل». وفى حديث سعد بن أبى وقاص«وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر» الحديث. خرجه البخار ي. {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} أي يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر. وقد قيل: هذا لا يكون للمؤمن، لان المؤمن لا ينزع عنه علمه.
وقيل: المعنى لكيلا يعمل بعد علم شيئا، فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه، لان تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه. والمعنى المقصود الاحتجاج على منكري البعث، أي الذي رده إلى هذه الحال قادر على أن يميته ثم يحييه.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)}
قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} أي جعل منكم غنيا وفقيرا وحرا وعبدا. {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} أي في الرزق. {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق شيئا حتى يستوي المملوك والمالك في المال. وهذا مثل ضربه الله لعبدة الأصنام، أي إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء فكيف تجعلون عبيدي معى سواء، فلما لم يكن يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان والأنصاب وغيرهما مما عبد، كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه. حكى معناه الطبري، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا أنها نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله فقال الله لهم: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى يكون المولى والعبد في المال شرعا سواء، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم فتجعلون لي ولدا من عبيدي. ونظيرها {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ} على ما يأتي. ودل هذا على أن العبد لا يملك، على ما يأتي أنفا.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}
قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً} جعل بمعنى خلق وقد تقدم. {مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً} يعني آدم خلق منه حواء.
وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم، كما قال: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي من الآدميين. وفى هذا رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها، حتى روى أن عمرو بن هند تزوج منهم غولا وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة فقالت: عمرو! ونفرت، فلم يرها أبدا. وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته فهو رد على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجان ويحيلون طعامهم. {أَزْواجاً} زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود كما تقدم.
قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ} ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، ووجود الأبناء يكون منهما معا، ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية. قال ابن العربي: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الام في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية، لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها. كما لو أكل رجل تمر في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الامة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها.
الثانية: قوله تعالى: {وَحَفَدَةً} روى ابن القاسم عن مالك قال: وسألته عن قوله تعالى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: الحفدة الخدم والأعوان في رأيى.
وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَحَفَدَةً} قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم وتقول! أو ما سمعت قول الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ** بأكفهن أزمة الإجمال

أي أسرعن الخدمة. والولائد: الخدم، الواحدة وليدة، قال الأعشى:
كلفت مجهولها نوقا يمانية ** إذا الحداة على أكسائها حفدوا

أي أسرعوا.
وقال ابن عرفة: الحفدة عند العرب الأعوان، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال: ومنه قولهم: إليك نسعى ونحفد، والحفدان السرعة. قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة.
وقال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد.
وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد.
وروى عن ابن عباس. وقيل الأختان، قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحا وسعيد بن جبير وإبراهيم، ومنه قول الشاعر:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ** لها حفد ما يعد كثير

ولكنها نفس على أبية ** عيوف لإصهار اللئام قذور

وروى زر عن عبد الله قال: الحفدة الأصهار، وقاله إبراهيم، والمعنى متقارب. قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة، مثل أبيها وأخيها وما أشبههما، والأصهار منها جميعا. يقال: أصهر فلان إلى بنى فلان وصاهر. وقول عبد الله هم الأختان، يحتمل المعنيين جميعا. يحتمل أن يكون أراد أبا المرأة وما أشبهه من أقربائها، ويحتمل أن يكون أراد وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهن، فيكون لكم بسببهن أختان.
وقال عكرمة: الحفدة من نفع الرجال من ولده، وأصله من حفد يحفد بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل إذا أسرع في سيره، كما قال كثير:
حفد الولائد بينهن

البيت.
ويقال: حفدت وأحفدت، لغتان إذا خدمت. ويقال: حافد وحفد، مثل خادم وخدم، وحافد وحفدة مثل كافر وكفرة. قال المهدوي: ومن جعل الحفدة الخدم جعله منقطعا مما قبله ينوي به التقديم، كأنه قال: جعل لكم حفدة وجعل لكم من أزواجكم بنين. قلت: ما قال الأزهري من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهر القرآن بل نصه، ألا ترى أنه قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} فجعل الحفدة والبنين منهن.
وقال ابن العربي: الأظهر عندي في قوله: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} أن البنين أولاد الرجل لصلبه والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا: وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة.
وقال معناه الحسن.
الثالثة: إذا فرعنا على قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم إن الحفدة الخدم والأعوان، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان، قاله ابن العربي.
روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعرسه فكانت امرأته خادمهم... الحديث، وقد تقدم في سورة هود. وفى الصحيح عن عائشة قالت: أنا فتلت قلائد بدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي. الحديث. ولهذا قال علماؤنا: عليها أن تفرش الفراش وتطبخ القدر وتقم الدار، بحسب حالها وعادة مثلها، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها} فكأنه جمع لنا فيها السكن والاستمتاع وضربا من الخدمة بحسب جرى العادة.
الرابعة: ويخدم الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها، لما روته عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج. وهذا قول مالك: ويعينها. وفى أخلاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الصوب. وقالت عائشة وقد قيل لها: ما كان يعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه.
الخامسة: وينفق على خادمة واحدة، وقيل: على أكثر، على قدر الثروة والمزلة. وهذا أمر دائر على العرف الذي هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الاعراب وسكان البوادي يخدمن أزواجهن حتى في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب ذلك، فإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم أحد أمها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه. قوله تعالى: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} أي من الثمار والحبوب والحيوان. {أَفَبِالْباطِلِ} يعني الأصنام، قاله ابن عباس. {يُؤْمِنُونَ} قراءة الجمهور بالياء. وقرأ أبو عبد الرحمن بالتاء {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ} أي بالإسلام. {هُمْ يَكْفُرُونَ}.

.تفسير الآيات (73- 74):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)}
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ} يعني المطر. {وَالْأَرْضِ} يعني النبات. {شَيْئاً} قال الأخفش: هو بدل من الرزق.
وقال الفراء: هو منصوب بإيقاع الرزق عليه، أي يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا. {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} أي لا يقدرون على شي، يعني الأصنام. {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ} أي لا تشبهوا به هذه الجمادات، لأنه واحد قادر لا مثل له. وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (75):

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} نبه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} أي بين شبها، ثم ذكر ذلك فقال: {عَبْداً مَمْلُوكاً} أي كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزق رزقا حسنا فكذلك أنا وهذه الأصنام. فالذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده. ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة، فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحدا، فإذا كانت بعد أمر أو نهى أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي، كقوله: أعتق رجلا ولا تهن رجلا، والمصدر كإعتاق رقبة، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء.
وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر، فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر، لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته، وإلى أن معنى {وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} المؤمن. والأول عليه الجمهور من أهل العلم والتأويل. قال الأصم: المراد بالعبد المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه، فقال الله تعالى ضربا للمثال. أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهى لا تعقل ولا تسمع.
الثانية: فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك. قال أهل العراق: الرق ينافي الملك، فلا يملك شيئا البتة بحال، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال الحسن وابن سيرين. ومنهم من قال: يملك إلا أنه ناقص الملك، لان لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعي في القديم. وهو قول أهل الظاهر، ولهذا قال أصحابنا: لا تجب عليه عبادة الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك. وفائدة هذه المسألة أن سيده لو ملكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لأنها ملك غيره، ولا على العبد لان ملكه غير مستقر. والعراقي يقول: لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت. ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف. وأدل دليل لنا قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق.
وقال عليه السلام: «من أعتق عبدا وله مال...» فأضاف المال إليه. وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك.
وروى عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين، فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده. والله أعلم.
الثالثة: وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده، وعلى أن بيع الامة طلاقها، معولا على قوله تعالى: {لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ}. قال: فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شيء أصلا، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه، إلا أن يدل دليل على خلافه. وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص. والله تعالى أعلم. والرابعة: قال أبو منصور في عقيدته: الرزق ما وقع الاغتذاء به. وهذه الآية ترد هذا التخصيص، وكذلك قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}. و{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ} وغير ذلك من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» وقوله: «أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها». فالغنيمة كلها رزق، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق، وهو مراتب: أعلاها ما يغذى. وقد حصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوه الانتفاع في قوله: «يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت». وفى معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك. وفى ألسنة المحدثين: السماع رزق، يعنون سماع الحديث، وهو صحيح.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} هو المؤمن، يطيع الله في نفسه وماله. والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا. {هَلْ يَسْتَوُونَ} أي لا يستوون، ولم يقل يستويان لمكان {مَنْ} لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث.
وقيل: ان {عَبْداً مَمْلُوكاً}، {وَمَنْ رَزَقْناهُ} أريد بهما الشيوع في الجنس. {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه، إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله، لأنه المنعم الخالق. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثر المشركين. {لا يَعْلَمُونَ} أن الحمد لي، وجميع النعمة منى. وذكر الأكثر وهو يريد الجميع، فهو خاص أريد به التعميم.
وقيل: أي بل أكثر الخلق لا يعلمون، وذلك أن أكثرهم المشركون.